أحــــلام خــلف الســــياج
في تلك الغرفة الصغيرة الخالية من الأثاث, كان هناك عجوز نائم محتضن حفيدته الصغيرة ورد على فراش بالٍ ممزق. فتح ذلك العجوز عينيه ببطء, و بدأ يهز الصغيرة ليوقظها من نومها " ورد حبيبتي, هيا استيقظي ". استيقظت ورد من نومها مذعورة " الأطفال... الأطفال", فركضت بسرعة متجهة إلى الصندوق الموضوع تحت النافذة, وقفت عليه حتى تصل إلى النافذة العالية بالنسبة لجسدها الصغير, و مدت يديها لتفتحها.
و ما إن فتحتها حتى امتلأت الغرفة بضوء الشمس الدافئ و امتزج هواءها بنسيم الصباح البارد. " جدي..جدي..انظر إلى الأطفال".
كانت ورد كعادتها, تراقب الأطفال الذي يرتدون الزي المدرسي الموحد حاملين حقائبهم الصغيرة
و في أيديهم دفاتر ملونة و هم ينشدون الأناشيد المدرسية اللطيفة.
كانت تنشد معهم بابتسامة عذبة ملوحة لهم بكل براءة " مرحبا.. مرحبا يا أصدقاء".
فقال أحدهم لأصحابه " انظروا هناك.. إنها حفيدة الزبال !" فتعالت أصوات الضحكات " زبالة...زبالة..زبالة...".
تلاشت تلك الابتسامة عن شفتيها و هي تنظر إليهم بعيون زائغة حزينة.
فوقف الجد خلفها و أغلق النافذة, أنزلها من على الصندوق قائلا" بدون الزبال... لن تكون القرية نظيفة و جميلة هكذا "
مسح بيده على شعرها الكستنائي " هيا يا ابنتي.. لنذهب " .كانت ورد مطأطئة
رأسها على الأرض و في أذنيها صوت الأطفال يردد " زبالة...زبالة ..."
خرج كل منهما إلى العالم, و كأنهم يرتدون عباءة تخفيهم عن الوجود, فلا أحد يعير اهتمامه بهم أو يسلم عليهم, أو حتى ينظر إليهم نظرة رحمة أو إشفاق, فهم نكرة..وجودهم مثل عدمهم.
تناول كل منهما فطوره عند الجار الطيب أبو محمود, و باشروا في العمل بكل همة و نشاط.. كانت ورد كالفراشة التي تطيرمن زهرة إلى
أخرى, تلتقط تلك العلب الفارغة و الأوراق الممزقة من على الأزقة
و الطرقات الضيقة في الحي القديم. إلى أن بلغت الشمس ذروتها و أصبحت في وسط السماء..
فجلس كل منهما على الرصيف ليلتقطا أنفاسهما و يأكلان غداءهم المعتاد... شطيرة الزعتر و الزيت.
كان الجد يراقب ورد و هي تأكل بشراهة و في قلبه لهب نيران تشتعل قهرا من قسوة الحياة,
فقد كان يحلم بأن يوفر لها حياة كريمة و أن يدخلها الروضة بدل من أن تعمل معه منذ نعومة أظفارها.
توجه كليهما إلى سوق الخضار ليكملا العمل, بعد استراحة دامت ربع ساعة من الزمن, كان المكان مزدحما و أصوات الباعة و المشترون تملأ الأجواء, فتفرق الجد عن حفيدته بين الحشود... و لا يدري كل منهما باختفاء الآخر.
مشيت ورد في تلك الممرات, إلى أن وصلت إلى مكان لم ترى مثله من قبل, وجدت أمامها مبنى
ضخم محاط بسياج حديدي أزرق, فركضت إليه كالمسحورة و أمسكت السياج بكلتا يديها الصغيرتين
المجرحة و عينيها العسليتين تلمع بشدة.
لقد رأت ورد عالما مختلفا تماما عن العالم المظلم الذي تعيش فيه,كان المكان مفعم بالحيوية و النشاط, نظيف و مرتب ,ملون بألوان زاهية تسعد عيون الصغار. الأطفال...
هنا و هناك, فتيان و فتيات, يضحكون و يلعبون في تلك الساحة الواسعة.
فجأة .. رن الجرس, فاصطف الجميع بنظام, و بدأت المدرسة كلها تنشد بصوت واحد النشيد الوطني على أنغام الموسيقى العذبة.
كانت ورد خلف السياج طائرة من الفرح, كانت تنشد معهم و تتمايل طربا و تضحك و تصفق كأنها بينهم.
قطع ذلك الحارس الضخم حلمها الجميل, محتقرا براءتها و مخربا
لفرحتها " ارحلي من هنا". فأمسكت ورد فورا بكيس القمامة الأكبر منها حجما
و رحلت من ذلك المكان و عقلها معلق هناك.
في نفس الوقت و الزمان, كان الجد كما عهدناه, يجمع القاذورات من على الأرض, فوجد قلما صغيرا مغطى بالغبار, انحنى ليلتقطه, فاصطدمت به سيارة طائشة, فسقط ذلك الجد... ميتَا ! تاركا خلفه فراشته الصغيرة تصارع قسوة الحياة لوحدها.
عادت ورد إلى سوق الخضار, باحثة عن جدها " جدي ..جدي .. أين أنت؟" مرت ساعات طويلة
و لم تجده.. فقد كانت و كأنها تبحث عن إبرة في كومة من القش, مشيت مطأطئة الرأس محبطة, حتى وجدت
نفس القلم الصغير... انحنت لتلتقطه فحركته الرياح, فركضت ورد خلفه, إلى أن وصلت إلى جثة الجد!
فصعقت لما رأت, و انفجرت بالبكاء أمام الملأ الذين تجمعوا حول مكان الحادث, حول ذلك الزبال المغطى بالدماء.
مرت عدة أيام على وفاة الجد, و اهتمت الجارة الطيبة أم محمود بورد, مع أنها هي أيضا
في حالة يرثى عليها, فزوجها أبو محمود عاطل عن العمل.
دُق جرس بيتها, ففتحت أم محمود الباب, وجدت سيدة محترمة ترتدي بدلة رسمية كحلية, و يظهر
على وجهها أنها راقية و متعلمة. " هل ورد هنا ؟ حفيدة عامل النظافة في هذا الحي ؟" قالت متسائلة
.أم محمود" نعم هنا... ماذا تريدين منها؟" السيدة " أنا مديرة المدرسة المجاورة, أرغب بتسجيل ورد عندي"
كانت ورد تراقبهم من بعيد, فلمحتها المديرة قائلة في نفسها " نعم ..إنها هي" ثم مدت يديها
منادية لها " ورد ... تعالي إلى هنا". تقدمت ورد بخطوات بطيئة مترددة, و ما إن اقتربت ورد منها
حتى احتضنتها المديرة " ورد, لقد بنيت المدرسة لأجلك " ثم وقفت و قالت لأم محمود
بكل اندفاع " إنها فتاة رائعة حقا! عندما رأيتها و هي تغني خلف سياج المدرسة
بكل فرح و سرور, أسرت قلبي و عقلي, و علقت صورتها في ذهني.. حتى أنني لم أستطع التوقف عن التفكير بها !"
ثم وجهت نظرها إلى ورد و مسحت يدها على شعرها " أعرف أنك عشت حيات صعبة, بل مأساوية...
لذا حان الوقت بأن ترتاحي و تدخلي المدرسة كما تمنيتي, فتتذوقين حلاوة الطفولة و تنسين مرارتها."
و هاهي ورد الآن, مرتدية ذلك الزي المدرسي حاملة الحقيبة الصغيرة, و في يدها ذلك القلم الصغيرنفسه " شكرا لك يا جدي على هذه الهدية"
نظرت إلى السماء و ابتسمت " ها قد تحقق حلمك و حلمي.."
بقلمي...
كتبت يوم :20-5-2011
و تم نشرها.... اليوم 17-12-2011